ترامب والشرق الأوسط- صفقة الاستقرار قبل قيم التغيير؟

في أركان خرائط النفوذ المتجمدة، حيث تتقاطع حدود الدول وتتشابك مع سياسات السيطرة، وتختفي القيم في خضم المصالح، كما تتلاشى الأضواء عند الأصيل، مثّل ظهور دونالد ترامب في ساحة السياسة الخارجية دخولًا عنيفًا إلى نظام هيمنت عليه فترة طويلة الأعراف الدبلوماسية والإجراءات الرسمية.
لم يأتِ كصوت إصلاحي يسعى إلى تغيير العالم، بل كصاحب ميزان تجاري يهدف إلى قياس حجم الأرباح وليس عمق التغييرات، وإخضاع منطق التغيير لقواعد السوق بدلًا من اعتبارات القيم أو أفكار التحول الديمقراطي.
في هذا الإطار، لم يكن نهج ترامب في الشرق الأوسط مبدأ بالمعنى المألوف مع شخصيات مثل ترومان أو كارتر أو بوش، بل كان موقفًا فلسفيًا معاكسًا لكل ما عُرف سابقًا بالالتزام الأخلاقي للدبلوماسية الأمريكية.
فقد أرسى ترامب أسلوبًا لا يعتمد على تصدير النماذج السياسية أو التدخل التغييري، بل على إعادة تعريف الشرعية من خلال فائدتها العملية بدلًا من مشروعيتها، وتحييد الديمقراطية باعتبارها عنصرًا مكلفًا وليس استثمارًا استراتيجيًا ذا عائد مضمون.
في عالم تحكمه منطقية الصفقات، قرر ترامب أن يبتعد بسياسة بلاده عن منطق الوصاية التحديثية، واستبدال السؤال "من سيحكم؟" بالسؤال "كيف يمكن الحكم دون التأثير سلبًا على المصالح؟".
وهنا تتجلى فلسفته كرفض واضح للدخول في مشاريع تحولية مفتوحة، واختيار واعٍ للاستقرار الذي يمكن استغلاله، مع ما يصاحب ذلك من واقعية حذرة لا تنغمس في أيديولوجية التغيير، بل تسعى إلى إمكانية التفاهم الاستراتيجي.
ولعل هذا التوجه قد بلغ قمته خلال زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط في شهر مايو/أيار من عام 2025، حيث بدت جولاته بين الرياض وأبو ظبي والدوحة لحظة حاسمة في إعادة تشكيل الخطاب السياسي الأمريكي، ليس كاستئناف لمشروع إصلاحي تبشيري مقترح، بل كتحول نحو الواقعية الهيكلية التي تقيم العلاقات بمعيار الاستقرار والتوافق.
في الرياض، أوضح أن ما يسمى بالمشروع الديمقراطي في كل من بغداد وكابول لم يكن إلا مغامرة فاشلة استنزفت الجهد والموارد دون أن تقدم نماذج يمكن تطبيقها أو تكرارها.
وبالمقابل، قدم رؤية بديلة تقوم على التفاهم مع الأنظمة الحالية وفق صيغة متوازنة تحفظ المصالح المشتركة وتعفي الطرفين من تكلفة الإملاءات أو الصدام القيمي.
وبنفس المنطق، أبدى تقديرًا واضحًا لما أسماه "فاعلية أنماط الحكم المستقرة" التي تمكنت من توفير بيئة تنموية، وشراكات استراتيجية، وأوضاع أمنية متماسكة، دون الانخراط في جدالات التجريب السياسي أو مخاطر النماذج المستوردة.
وهكذا، اتسم تواجده الإقليمي بميل متزايد نحو تحويل العلاقات إلى هياكل تعاقدية، قوامها الصفقات الضخمة، من اتفاقيات الأسلحة إلى الشراكات الرقمية، في صورة تعكس فلسفة ترى في الدولة الشريكة طرفًا عقلانيًا وليس موضوعًا لسياسات إعادة التشكيل أو التدخل الخارجي.
فلسفة ترامب في الشرق الأوسط ليست مجرد اتجاهات مؤقتة، بل هي رؤية شاملة تعطي الأولوية للاستقرار القائم على التوافق، وتؤجل قضايا التحول السياسي إلى أجل غير مسمى. إنها مقاربة لا تعتمد على القيم الليبرالية التقليدية، بل على ضرورات التوازن الإقليمي وإدارة النفوذ ضمن هيكل مصالح مرن.
وعندما تتضح هذه المقاربة في صورتها الكاملة، يتبين أن مبدأ ترامب لم يكن وثيقة مكتوبة، بل خطابًا ضمنيًا شكلته الأحداث أكثر مما صنعته النظريات، وصقلتهُ النتائج أكثر ممّا بلورته النوايا.
فهو ليس دعوة إلى الجمود، بل تأجيل منظم للتحول يبقي على منظومة المصالح في حالة سيولة منظمة، دون الاندفاع إلى مغامرات التنظير أو إعادة هيكلة المجتمعات.
وبينما يترسخ هذا المنطق في خلفية العلاقات الدولية الراهنة، يصبح الحضور الأمريكي مشروطًا، لا بالتبشير بل بالتفاهم، ولا بالهيمنة بل بالقدرة على التكيف مع معطيات الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون.
مبدأ ترامب في الشرق الأوسط، في نهاية المطاف، لا يمثل ثورة على السياسة الأمريكية بقدر ما يجسد أوج براغماتيتها، عندما تختزل القيم في معادلات الربح والخسارة، وعندما تدار ملفات المنطقة كما تدار صفقات السوق، بمزيج من الحسابات الدقيقة والحدس، وبنزعة ترى في الاستقرار المربح أفضل من التغيير المكلف.
وهو بذلك لا يؤسس لمرحلة انتقالية، بل يضع إطارًا لزمن سياسي جديد، تصبح فيه القواعد القديمة معلقة، والمسلمات السابقة قيد المراجعة، في انتظار مشهد دولي لا تحكمه المبادئ وحدها، بل موازين القدرة على الصمود عند تقاطع المصالح.